فصل: ذكر مسير الملك الرحيم إلى شيراز وعوده عنها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر استيلاء أبي كاليجار على البطيحة:

في هذه السنة اشتد الحصار من عسكر الملك أبي كاليجار على أب نصر بن الهيثم، صاحب البطيحة، فجنح إلى الصلح، فاشتط عليه أبو الغنائم ابن الوزير ذي السعادات، ثم استأمن نفر من أصحاب أبي نصر وملاحيه إلى أبي الغنائم، وأخبروه بضعف أبي نصر، وعزمه على الانتقال من مكانه، فحفظ الطرق عليه، فلما كان خامس صفر جرت وقعة كبيرة بين الفريقين، واشتد القتال، فظفر أبو الغنائم، وقتل من البطائحيين جماعة كثيرة وغرق منهم سفن كثيرة، وتفرقوا في الآجام، ومضى ابن الهيثم ناجياً بنفسه في زبزب، وملكت داره ونهب ما فيها.

.ذكر ظهور الأصفر وأسره:

في هذه السنة ظهر الأصفر التغلبي برأس عين، وادعى أنه من المذكورين في الكتب، واستغوى قوماً بمخاريق وضعها، وجمع جمعاً وغزا نواحي الروم، فظفر وغنم وعاد، وظهر حديثه، وقوي ناموسه، وعاودوا الغزو في عدد أكثر من العدد الأول، ودخل نواحي الروم وأوغل، وغنم أضعاف ما غنمه أولاً، حتى بيعت الجارية الجميلة بالثمن البخس.
وتسامع الناس به فقصدوه، وكثر جمعه، واشتدت شوكته، وثقلت على الروم وطأته فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان يقول له: إنك عالم بما بيننا من الموادعة، وقد فعل هذا الرجل هذه الأفاعيل، فإن كنت قد رجعت عن المهادنة فعرفنا لندبر أمرنا بحبسه.
واتفق، في ذلك الوقت، أن وصل رسول من الأصفر إلى نصر الدولة أيضاً، ينكر عليه ترك الغزو والميل إلى الدعة، فساءه ذلك أيضاً، واستدعى قوماً من بني نمير وقال لهم: إن هذا الرجل قد أثار الروم علينا، ولا قدرة لنا عليهم، وبذل لهم مالاً على الفتك به، فساروا إليه، فقربهم، ولازموه، فركب يوماً غير متحرز، فأبعد وهم معه، فعطفوا عليه وأخذوه وحملوه إلى نصر الدولة بن مروان، فاعتقله، وتلافى أمر الروم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة تجددت الهدنة بين صاحب مصر وبين الروم، وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية عظيمة.
وفيها كان ببغداد والموصل، وسائر البلاد العراقية والجزرية، غلاء عظيم، حتى أكل الناس الميتة، وتبعه وباء شديد مات فيه كثير من الناس، حتى خلت الأسواق، وزادت أثمان ما يحتاج إليه المرضى، حتى بيع المن من الشراب بنصف دينار، ومن اللوز بخمسة عشر قيراطاً، والرمانة بقيراطين، والخيارة بقيراط، وأشباه ذلك.
وفيها جمع الأمير أبو كاليجار فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه جمعاً، وسار إلى آمد، فدخلها، وساعده أهلها، وأوقع بمن كان فيها من أصحاب طغرلبك، فقتل وأسر، وعرف طغرلبك ذلك، فسار عن الري قاصداً إليه، ومتوجهاً إلى قتاله. وفيها توفي عميد الدولة أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم بجزيرة ابن عمر في ذي القعدة، وله شعر حسن، ووزر لجلال الدولة عدة دفعات.
وفيها سير المعز بن باديس صاحب إفريقية أسطولاً إلى جزائر القسطنطينية، فظفر وغنم وعاد.
وفيها اقتتلت طوائف من تلكاتة، قاتل بعضهم بعضاً، وكان بينهم حرب صبروا فيها، فقتل منهم خلق كثير.
وفيها قبض الملك أبي كاليجار على وزيره محمد بن جعفر بن أبي الفرج الملقب بذي السعادات بن فسانجس، وسجنه، وهرب ولده أبو الغنائم، وبقي الوزير مسجوناً إلى أن مات في شهر رمضان سنة أربعين، وقيل أرسل إليه أبو كاليجار من قتله، وعمره إحدى وخمسون سنة، وللوزير ذي السعادات مكاتبات حسنة، وشعر جيد منه:
أودعكم، وإني ذو اكتئاب، ** وأرحل عنكم، والقلب آبي

وإن فراقكم في كل حال ** لأوجع من مفارقة الشباب

أسير، وما ذممت لكم جواراً، ** ولا ملت منازلكم ركابي

وأشكر كلما أوطنت داراً ** ليالينا القصار بلا اجتناب

وأذكركم، إذا هبت جنوب، ** فتذكرني غرارات التصابي

لكم مني المودة في اغتراب، ** وأنتم إلف نفسي في اقترابي

وهو أطول من هذا.
ولما قبض ذو السعادات استوزر أبو كاليجار كمال الملك أبا المعالي بن عبد الرحيم.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب المعروف بالمطرز الشاعر، وله شعر جيد، فمن قوله في الزهد:
يا عبد كم لك من ذنب ومعصية، ** إن كنت ناسيها، فالله أحصاها

لا بد يا عبد من يوم تقوم به، ** ووقفة لك يدمي القلب ذكراها

إذا عرضت على قلبي تذكرها، ** وساء ظني فقلت استغفر اللاها

وفيها مات أبو الخطاب الجبلي الشاعر، ومضى إلى الشام، ولقي المعري، وعاد ضريراً، وله شعر منه قوله:
ما حكم الحب فهو ممتثل، ** وما جناه الحبيب محتمل

تهوى، وتشكو الضنى، وكل هوى ** لا ينحل الجسم، فهو منتحل

وفيها توفي أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال، الحافظ، ومولده سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، سمع أبا بكر القطيعي وغيره، ومن أصحابه الخطيب أبو بكر الحافظ.
وفيها قتل الفقيه أحمد الولوالجي، وهو من أعيان الفقهاء الحنفية، إلا أنه كان يكثر الوقيعة في الأئمة والعلماء، وسلك طريق الرياضة، وفسد دماغه، فقتل بين مرو وسرخس في ذي الحجة. ثم دخلت:

.سنة أربعين وأربعمائة:

.ذكر رحيل عسكر ينال عن تيرانشاه وعود مهلهل إلى شهرزور:

قد ذكرنا في السنة المتقدمة استيلاء أحمد بن طاهر، وزير ينال، على شهرزور، ومحاصرته قلعة تيرانشاه، ولم يزل يحاصرها إلى الآن، فوقع في عسكره الوباء وكثر الموت، فأرسل إلى صاحبه ينال يستمده، ويطلب إنجاده، ويعرفه كثرة الوباء عنده، فأمره بالرحيل عنها، فسار إلى مايدشت. فلما سمع مهلهل ذلك سير أحد أولاد شهرزور، فملكها وانزعج الغز الذين بالسيروان وخافوا.
ثم سار جمع من عسكر بغداد إلى حلوان، وحصروا قلعتها، فلم يظفروا بها، فنهبوا تلك الأعمال، وأتوا على ما تخلف من الغز، فخربت الأعمال بالكلية، وسار مهلهل ومعه أهله وأمواله إلى بغداد، فأنزلهم بباب المراتب، بدار الخلافة، خوفاً من الغز، وعاد إلى حلله، وبينه وبين بغداد ستة فراسخ، وسار جمع من عسكر بغداد إلى البندنيجين، وبها جمع من الغز مع عكبر ابن أحمد بن عياض، فتواقعوا، واقتتلوا، فانهزم عسكر بغداد، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة قتلوا أيضاً صبراً.

.ذكر غزو إبراهيم ينال الروم:

في هذه السنة غزا إبراهيم ينال الروم، فظفر بهم وغنم.
وكان سبب ذلك أن خلقاً كثيراً من الغز بما وراء النهر قدموا عليه، فقال لهم: بلادي تضيق عن مقامكم والقيام بما تحتاجون إليه، والرأي أن تمضوا إلى غزو الروم، وتجاهدوا في سبيل الله، وتغنموا، وأنا سائر على أثركم، ومساعد لكم على أمركم. ففعلوا.
وساروا بين يديه، وتبعهم، فوصلوا إلى ملازكرد، وأرزن الروم، وقاليقلا، وبلغوا طرابزون وتلك النواحي كلها، ولقيهم عسكر عظيم لروم والأبخاز يبلغون خمسين ألفاً، فاقتتلوا، واشتد القتال بينهم، وكانت بينهم عدة وقائع تارة يظفر هؤلاء وتارة هؤلاء وكان آخر الأمر الظفر للمسلمين، فأكثروا القتل في الروم وهزموهم، وأسروا جماعة كثيرة من بطارقتهم، وممن أسر قاريط ملك الأبخاز، فبذل في نفسه ثلاثمائة ألف دينار، وهدايا بمائة ألف، فلم يجبه إلى ذلك، ولم يجوس تلك البلاد وينهبها إلى انهزموا أن بقي بينه وبين القسطنطينية خمسة عشر يوماً، واستولى المسلمون على تلك النواحي فنهبوها، وغنموا ما فيها، وسبوا أكثر من مائة ألف رأس، وأخذوا من الدواب والبغال والغنائم والأموال ما لا يقع عليه الإحصاء، وقيل إن الغنائم حملت على عشرة آلاف عجلة، وإن في جملة الغنيمة تسعة عشر ألف درع.
وكان قد دخل بلد الروم جمع من الغز يقدمهم إنسان نسيب طغرلبك، فلم يؤثر كبير أثر، وقتل من أصحابه جماعة، وعاد، ودخل بعده إبراهيم ينال، ففعل هذا الذي ذكرناه.

.ذكر موت الملك أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم:

في هذه السنة توفي الملك أبي كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، رابع جمادى الأولى، بمدينة جناب من كرمان.
وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد عول في ولاية كرمان حرباً وخراباً على بهرام بن لشكرستان الديلمي، وقرر عليه مالاً، فتراخى بهرام في تحرير الأمر، وأحاله إلى المغالطة والمدافعة، فشرع حينئذ أبو كاليجار في إعمال الحيلة عليه، وأخذ قلعة بردسير من يده، وهي معقله الذي يحتمي به ويعول عليه، فراسل بعض من بها من الأجناد وأفسدهم، فعلم بهم بهرام فقتلهم، وزاد نفوره واستشعاره، وأظهر ذلك، فسار إليه الملك أبو كاليجار في ربيع الآخر، فبلغ قصر مجاشع، فوجد في حلقه خشونة، فلم يبال بها، وشرب وتصيد وأكل من كبد غزال مشوي، واشتدت علته، ولحقه حمى، وضعف عن الركوب، ولم يمكنه المقام لعدم الميرة بذلك المنزل، فحمل في محفة على أعناق الرجال إلى مدينة جناب، فتوفي بها، وكان عمره أربعين سنة وشهوراً، وكان ملكه بالعراق بعد وفاة جلال الدولة أربع سنين وشهرين ونيفاً وعشرين يوماً.
ولما توفي نهب الأتراك من العسكر الخزائن والسلاح والدواب، وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور، وكانت منفردة عن العسكر، فأقام عنده، وأراد الأتراك نهب الوزير والأمير، فمنعهم الديلم، وعادوا إلى شيراز، فملكها الأمير أبو منصور، واستشعر الوزير، فصعد إلى قلعة خرمة فامتنع بها.
فلما وصل خبر وفاته إلى بغداد، وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خرة فيروز، أحضر الجند واستحلفهم، وراسل الخليفة القائم بأمر الله في معنى الخطبة له، وتلقيبه بالملك الرحيم، وترددت الرسل بينهم في ذلك إلى أن أجيب إلى ملتمسه سوى الملك الرحيم فإن الخليفة امتنع من إجابته وقال: لا يجوز أن يلقب بأخص صفات الله تعالى.
واستقر ملكه بالعراق، وخوزستان، والبصرة، وكان بالبصرة أخوه أبو علي بن أبي كاليجار. وخلف أبو كاليجار من الأولاد: الملك الرحيم، والأمير أبا منصور فلاستون، وأبا طالب كامرو، وأبا المظفر بهرام، وأبا علي كيخسرو، وأبا سعد خسروشاه، وثلاثة بنين أصاغر، فاستولى ابنه أبو منصور على شيراز، فسير إليه الملك الرحيم أخاه أبا سعد في عسكر، فملكوا شيراز، وخطبوا للملك الرحيم، وقبضوا على الأمير أبي منصور والدته، وكان ذلك في شوال.

.ذكر محاصرة العساكر المصرية مدينة حلب:

في جمادى الآخرة وصلت عساكر مصر إلى حلب في جمع كثير فحصروها، وبها معز الدولة أبو علوان ثمال بن صالح الكلابي، فجمع جمعاً كثيراً بلغوا خمسة آلاف فارس وراجل، فلما نزلوا على حلب خرج إليهم ثمال وقاتلهم قتالاً شديداً صرب فيه لهم إلى الليل، ثم دخل البلد، فلما كان الغد اقتتلوا إلى آخر النهار، وصبر أيضاً ثمال، وكذلك أيضاً اليوم الثالث. فلما رأى المصريون صبر ثمال، وكانوا ظنوا أن أحداً لا يقوم بين أيديهم، رحلوا عن البلد، فاتفق أن تلك الليلة جاء مطر عظيم لم ير الناس مثله، جاءت المدود إلى منزلهم، فبلغ الماء ما يقارب قامتين، ولو لم يرحلوا لغرقوا، ثم رحلوا إلى الشام الأعلى.

.ذكر الخلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية:

في هذه السنة اختلف قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية، وكان للحميدية عدة حصون تجاور الموصل منها العقر وما قاربها، وللهذبانية قلعة إربل وأعمالها، وكان صاحب العقر حينئذ أبا الحسن بن عيسكان الحميدي، وصاحب إربل أبو الحسن بن موسك الهذباني، وله أخ اسمه أبو علي بن موسك فأعانه الحميدي على أخذ إربل من أخيه أبي الحسن، فملكها منه، وأخذ صاحبها أبا الحسن أسيراً.
وكان قرواش وأخوه زعيم الدولة أبو كامل بالعراق مشغولين، فلما عادا إلى الموصل وقد سخطا هذه الحالة لم يظهراها، وأرسل قرواش يطلب من الحميدي والهذباني نجدة له على نصر الدولة بن مروان. فأما أبو الحسن الحميدي فسار إليه بنفسه، وأما أبو علي الهذباني فأرسل أخاه، واصطلح قرواش ونصر الدولة، وقبض على أبي الحسن الحميدي، ثم صانعه على إطلاق أبي الحسن الهذباني، الذي كان صاحب إربل وأخذ إربل من أخيه أبي علي وتسليمها إليه، فإن امتنع أبو علي كان عوناً عليه، فأجاب إلى ذلك، ورهن عليه أهله وأولاده وثلاث قلاع من حصونه إلى أن يتسلم إربل وأطلق من الحبس.
وكان أخ له قد استولى على قلاعه، فخرج إليها وأخذها منه، وعاد إلى قرواش أخيه زعيم الدولة، فوثقا به، وأطلقا أهله، ثم إنه راسل أبا علي، صاحب إربل، في تسليمها، فأجاب إلى ذلك وحضر بالموصل ليسلم إربل إلى أخيه أبي الحسن، فقال الحميدي لقراوش: إنني قد وفيت بعهدي، فتسلمان إلي حصوني، فسلما إليه قلاعه، وسار هو وأبو الحسن، وأبو علي الهذباني إلى إربل ليسلماها إلى أبي الحسن، فغدرا به في الطريق، وكان قد أحس بالشر، فتخلف عنهما، وسير معهما أصحابه ليتسلموا إربل، فقبضا على أصحابه وطلبوه ليقبضوه، فهرب إلى الموصل، وتأكدت الوحشة حينئذ بين الأكراد وقرواش وأخيه، وتقاطعوا، وأضمر كل منهم الشر لصاحبه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة اسر الملك الرحيم من بغداد إلى خوزستان، فلقيه من بها من الجند وأطاعوه، وفيهم كرشاسف بن علاء الدولة الذي كان صاحب همذان وكنكور، فإنه كان انتقل إلى الملك أبي كاليجار، بعد أن استولى ينال على أعماله، ولما مات أبو كاليجار سار الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة إلى البصرة طمعاً في ملكها، فلقيه من بها من الجند وقاتلوه وهزموه، فعاد عنها، وكان قبل ذلك عند قرواش ثم عند ينال، ولما سمع باستقامة الأمور للملك الرحيم انقطع أمله، ولما سار الملك الرحيم عن بغداد كثرت الفتن بها، ودامت بين أهل باب الأزج والأساكفة، وهم السنة، فأحرقوا عقاراً كثيراً.
وفيها سار سعدي بن أبي الشوك من حلة دبيس بن مزيد إلى إبراهيم ينال، بعد أن راسله، وتوثق منه، وتقرر بينهما أنه كل ما يملكه سعدي مما ليس بيد ينال ونوابه فهو له، فسار سعدي إلى الدسكرة، وجرى بينه وبين من بها من عسكر بغداد حرب انهزموا فيها منه، وملكها وما يليها، فسير إليها عسكر ثان من بغداد، فقتل مقدمهم وهزمهم، وسار من الدسكرة وتوسط تلك الأعمال بالقرب من بعقوبا، ونهب أصحابه البلاد، وخطبوا لإبراهيم ينال.
وفيها كان ابتداء الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلد، فانضاف قريش بن بدران بن المقلد إلى عمه قرواش، وجمع جمعاً، وقاتل عمه أبا كامل، فظفر ونصر وانهزم أبو كامل، ولم يزل قريش يغري قرواشاً بأخيه حتى تأكدت الوحشة، وتفاقم الشر بينهما.
وفيها خطب للأمير أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله بولاية العهد، ولقب ذخيرة الدين، وولي عهد المسلمين.
وفيها، في رمضان، قتل الأمير أقسنقر بهمذان، قتله الباطنية لأنه كان كثير الغزو إليهم، والقتل فيهم، والنهب لأموالهم، والتخريب لبلادهم، فلما كان الآن قصد إنساناً من الزهاد ليزوره، فوثب عليه جماعة من الإسماعيلية فقتلوه.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، وكان من الصالحين ورواة الحديث، وأوصى أن يدفن بجوار أحمد بن حنبل، ومولده سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وأبو طالب محمد بن محمد بن غيلان البزاز، ومولده سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، روى عن أبي بكر الشافعي وغيره، وتوفي في شوال، وهو راوي الأحاديث المعروفة بالغيلانيات التي خرجها الدارقطني له، وهي من أعلى الحديث وأحسنه، وعبيد الله بن عمر أحمد ابن عثمان أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين، ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.
وفيها كان الغلاء والوباء عاماً في البلاد جميعها، بمكة، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، ومصر وغيرها من البلاد.
وفيها قبض بمصر على الوزير فخر الملك صدقة بن يوسف وقتل، وكان أول أمره يهودياً فأسلم، واتصل بالدزبري، وخدمه بالشام ثم خافه فعاد إلى مصر، وخدم الجرجرائي الوزير، وأنفق عليه، فلما توفي الجرجرائي استوزره المستنصر إلى الآن، ثم قتله واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري في ذي القعدة. ثم دخلت:

.سنة إحدى وأربعين وأربعمائة:

.ذكر ظهور الخلف بين قرواش وأخيه أبي كامل وصلحهما:

في هذه السنة ظهر الخلف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهوراً آل إلى المحاربة، وقد تقدم سبب ذلك. فلما اشتد الأمر، وفسد الحال فساداً لا يمكن إصلاحه، جمع كل منهما جمعاً لمحاربة صاحبه، وسار قرواش في المحرم، وعبر دجلة بنواحي بلد، وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي، وغيرهما من الأكراد، وساروا إلى معلشايا فأخربوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمغيثة، وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب، فنزلوا بمرج بابنيثا، وبين الطائفتين نحو فرسخ، واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم، وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك، ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية، ووافقه أبو الحسن الحميدي، وساروا عن قرواش، وفارقه جمع من العرب، وقصدوا أخاه، فضعف أمر قرواش، وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير، فركب العرب من أصحابه أبي كامل لقصده، فمنعهم، وأسفر الصبح يوم الاثنين وقد تسرع بعضهم ونهب بعضاً من عرب قرواش، وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته، وأحسن عشرته، ثم أنفذه إلى الموصل محجوراً عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار.
وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار لسوء طريقهم وفسادهم، فهرب الباقون منهم، وبقي بعضهم بالسندية، فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار، وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة، وقتلوا حارساً، وفتحوا الباب، ونادوا بشعار أبي كامل، فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل، فكثروا، وثار بهم أصحاب قرواش، فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة، وهرب الباقون، فبلغه خبر استيلاء أخيه، ولم يبلغه عود أصحابه.
ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه، واشتطوا عليه، فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته، فبادرهم إليه، وقبل يده وقال له: إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك، وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك في، وأشعرك الوحشة مني، والآن فأنت الأمير، وأنا الطائع لأمرك والتابع لك، فقال له قرواش: بل أنت الأخ، والأمر لك مسلم، وأنت أقوم به مني. وصلح الحال بينهما، وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره.
وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى، وأوانا، فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالاً عنها، فتظاهر بلال بالخلاف عليهما، وجمع إلى نفسه جمعاً وقاتل أصحاب قرواش، وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما، فانحدر قرواش من الموصل إليهما وحصرهما وأخذهما.

.ذكر مسير الملك الرحيم إلى شيراز وعوده عنها:

في هذه السنة، في المحرم، اسر الملك الرحيم من الأهواز إلى بلاد فارس، فوصلها، وخرج عسكر شيراز إلى خدمته، ونزل بالقرب من شيراز ليدخل البلد.
ثم إن الأتراك الشيرازيين والبغداديين اختلفوا، وجرى بينهم مناوشة استظهر فيها البغداديون، وعادوا إلى العراق، فاضطر الملك الرحيم إلى المسير معهم، لأنه لم يكن يثق بالأتراك الشيرازية.
وكان ديلم بلاد فارس قد مالوا إلى أخيه فولاستون، وهو بقلعة إصطخر، فهو أيضاً منحرف عنهم، فاضطر إلى صحبة البغداديين فعاد، في ربيع الأول من هذه السنة، إلى الأهواز وأقام بها، واستخلف بأرجان أخويه أبا سعد، وأبا طالب، ووقع الخلف بفارس، فإن الأمير أبا منصور، فولاستون، وكان قد خلص وصار بقلعة إصطخر، واجتمع معه جماعة من أعيان العسكر الفارسي، فلما عاد الملك الرحيم إلى الأهواز انبسط في البلاد، وقصده كثير من العساكر، واستولى على بلاد فارس، ثم سار إلى أرجان عازماً على قصد الأهواز وأخذها.

.ذكر الحرب بين البساسيري وعقيل:

في هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا، فنهبوهما، وأخذوا من الأموال الكثير، وكانا في إقطاع البساسيري، فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم، فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل ابن المقلد، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى الفريقان فيه بلاء حسناً، وصبرا صبراً جميلاً، وقتل جماعة من الفريقين.

.ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال:

في هذه السنة استوحش إبراهيم ينال من أخيه السلطان طغرلبك.
وكان سبب ذلك أن طغرلبك طلب من إبراهيم ينال أن يسلم إليه مدينة همذان والقلاع التي بيده من بلد الجبل، فامتنع من ذلك، واتهم وزيره أبا علي بالسعي بينهما في الفساد، فقبض عليه، وأمر فضرب بين يديه، وسمل إحدى عينيه، وقطع شفتيه، وسار عن طغرلبك، وجمع جمعاً من عسكره، والتقيا، وكان بين العسكرين قتال شديد انهزم ينال وعاد منهزماً، فسار طغرلبك في أثره، فملك قلاعه وبلاده جميعها.
وتحصن إبراهيم ينال بقلعة سرماج، وامتنع على أخيه، فحصره طغرلبك فيها، وكانت عساكره قد بلغت مائة ألف من أنواع العسكر، وقاتله، فملكها في أربعة أيام، وهي من أحصن القلاع وأمنعها، واستنزل ينال منها مقهوراً، وأرسل إلى نصر الدولة بن مروان يطلب منه إقامة الخطبة له في بلاده، فأطاعه وخطب له في سائر ديار بكر، وراسل ملك الروم طغرلبك، وأرسل إليه هدية عظيمة، وطلب منه المعاهدة، فأجابه إلى ذلك.
وأرسل ملك الروم إلى ابن مروان يسأله أن يسعى في فداء ملك الأبخاز المقدم ذكره، فأرسل نصر الدولة شيخ الإسلام أبا عبد الله بن مروان في المعنى إلى السلطان طغرلبك، فأطلقه بغير فداء، فعظم ذلك عنده وعند ملك الروم، وأرسل عوضه من الهدايا شيئاً كثيراً، وعمروا مسجد القسطنطينية، وأقاموا فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك، ودان حينئذ الناس كلهم له، وعظم شأنه وتمكن ملكه وثبت.
ولما نزل ينال إلى طغرلبك أكرمه وأحسن إليه، ورد عليه كثيراً مما أخذ منه، وخيره بين أن يقطعه بلاداً يسير إليها، وبين أن يقيم معه، فاختار المقام معه.